بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم أخرجنا من ظلمات
الوهم وأكرمنا بنور الفهم وافتح عليما بمعرفة العلم وسهل أخلاقنا بالحلم واجعلنا
ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أما بعد فكلامنا اليوم إن شاء الله عن الخوف، هو
صفة من صفات المؤمن الصالح الخوف من الله تعالى هو خوف من صفاته من عظمته وجلاله
وهيبة تقع في القلب من هول الموقف بين يديه وتحقيق لسر قوله عز وجل "
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ " ... ويكون هذا الخوف لما عند العبد من
معرفة الله وصفاته وجلاله واستغنائه فمن عرف الله تعالى عرف أنه يفعل ما يشاء ولا
يبالي ويحكم ما يريد وأنه لو أهلك العالمين لم يبال ولم يمنعه مانع وأنه لا يُسأل
عمَّا يفعل وهم يُسألون. فأخوف الناس لربه أعرفهم بالله وبصفاته وأعرفهم بحال نفسه،
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أخوفكم لله سبحانه وتعالى). وكذلك
قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). أما الخوف من
عذاب الله فهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار وكونهما جزاءين على الطاعة
والمعصية، ويكون ضعفه بسبب الغفلة وضعف الإيمان وتكون تقويته بتذكر قدرة الله وضعف
الإنسان وتذكر أحوال الخائفين و قصصهم.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجلٌ يوضع في أخمص قدميه
جمرتان يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحداً أشد عذاباً منه ، وإنه لأهونهم عذاباً)
متفق عليه. فهل يدع هذا الحديث في كيان أحدنا أمناً وطمأنينة من عذاب الله وسخطه.
مهما كان أحدنا هل يضمن أن لا يكون هو هذا الإنسان ... وربنا عز وجل يقول: (فَلاَ يَأْمَنُ
مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) ليس لله مكر ولكن من قبيل المشاكلة
أي العقاب الذي ادخره الله لمن ظن أن الله لن يعاقبه.
مهما صلى الإنسان مهما صام
مهما ذكر الله يظل مقصراً وهو مركب من أخطاء ومن تقصير. والمعاملة مع خالق الكون
مع رب العباد مع خالق القوى والقدر. ما أدراه أن الله سيغفر له هل لأخذ براءة من
الله من ناره.. أبداً ولنقرأ قول الله عز وجل: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ). فكيف للإنسان أن يأمن مكر الله وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (قال الله عز وجل: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين ،
إذا أمِنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمَّنته يوم
القيامة).
وقيل للحسن: يا أبا سعيد
كيف نصنع؟ نجالس أقواماً يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير، فقال: والله، إنك أن تخالط
قوما يخوفونك حتى يدركك الأمن، خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك الخوف.
وقالت عائشة رضي الله
عنها: قلت يا رسول الله: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) هو الرجل يسرق
ويزني؟ قال (لا بل الرجل يصوم ويصلي وبتصدق ويخاف أن لا يقبل منه).
فيقول أحدنا أمرني الله
ففعلت نهاني فانتهيت وأتيت كل ما علي! إذاً أنا من أهل الجنة ومن مستحقي رحمة الله
عز وجل فتأتيه أمور لم يحسب لها حسباناً ويصدق عليه قول الله (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ
اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ). فغبيٌ جداً ومخدوعٌ جداً من ركن إلى
القليل من طاعته أو الكثير وظن نفسه أنه مغفور له. قال تعالى: (فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ).
وعندما ننظر إلى صحابيٍ
مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأين نحن من عمر؟ وما أدراكَ من عمر؟ وهو أمير
المؤمنين ننظر إليه وهو يبكي في جوف الليل ويقول: (ليت أم عمر لم تلد عمر)، وتمنى
لو كان شاة في بادية ما، ويقول (والله لو أن إحدى قدمي دخلت الجنة والأخرى لا تزال
لا آمن مكر الله عز وجل).
وروي في الصحيح أن رجلاً
كان مسرفاً على نفسه فلما دنا أجله جمع أولاده وقال: إذا مت والله لإن قدر الله
علي فلسوف يعذبني عذاباً لم يعذبه أحداً مثلي فإذا مت فأحرقوني ثم اجمعوا رمادي
فاذروا رمادي في يوم ذي ريح شديد، فو الله لان قدر الله علي ليعذبني عذاباً لم يعذبه
أحداً من قبل. ففعلوا به ذلك ونفذوا وصيته كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيقول الله عز وجل: (ما الذي حملك على هذا؟ يقول خوفي من عذابك! إني أعلم أني رحلت
إليك وليس في جعبتي شيء من الطاعات فلم أجد سبيلاً إلا أن أحيل ذاتي إلى رماد تذره
الرياح. فيقول الله: ( لقد غفرت لك).
فالسر هنا هو حقيقة العبودية
فبمقدار ما يتقرب العبد من الله بذله وبخضوعه بمقدار ما يبتعد عنه بعجبه وريائه.
وما ورد في فضل الخوف خارج
عن الحصر فقد قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)، وقال: (هُدىً
وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) كذلك قال: (رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)، وقال عز وجل: (وَأَمَّا
مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوَى).
والله سبحانه وتعالى لم
يذكِّر عباده بصفات رحمته إلا وذكَّرهم قبل ذلك أو بعده مباشرة بصفات عقوبته
وانتقامه وعظيم سطوته. ولا نجد آية من آيات الرحمة إلا وهي مقترنة بآية من آيات
الشدة قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
وَأَنِيبُوا
إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ
لا تُنصَرُونَ).
(نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي
أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ
عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ).
فآية الرخاء إلى جانب آية الشدة
حتى يتجاذب الإنسان شعوران اثنان أملٌ برحمة الله وخوفٌ من عذابه وإذا امتزج هذان
الشعوران نشئ الإنسان على تربية ربانية تامة فلا الخوف وحده يصبح حال العبد ولا
الأمل وحده وهكذا يربي الباري عز وجل
عباده. قال تعالى: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) وقال عز وجل: (وَيَدْعُونَنَا
رَغَباً وَرَهَباً).
وروي أن علياً كرم الله
وجهه قال لبعض ولده: يا بني خَف الله خوفاً ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم
يتقبلها منك، وارجُ الله رجاءً ترى لو أنك أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك.
أما عمر رضي الله عنه
فيقول: (لو نودي ليدخل النار كل الناس إلا رجلاً واحداً لرجوت أن أكون أنا ذلك
الرجل، ولو نودي ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً لخشيت أن أكون أنا ذلك
الرجل)، وفي ذلك غاية الخوف والرجاء واعتدالهما فلا يمكن أن يتعامل الإنسان معاملة
العبد مع خالقه إلا إذا كان على صراطه القويم بدافعين دافعٌ من الأمل برحمته ودافعٌ
من الخوف من عذابه.
وإذا وقفنا أمام الآيات
التي يصف بها الله عذابه نسمع شيئاً تذوب منه القلوب بل تذوب منه الحجارة الصماء،
قال تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ
مَزِيدٍ)،
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
)،
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ
وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ )،
(وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ
لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاَ
تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعيدٌ ).
كذلك قال تعالى: (وَمَا
أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ) وذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : (شيبتني هود وأخواتها سورة الواقعة وإذا الشمس كورت وعمَّ
يتساءلون). وقال العلماء لعل ذلك لما في سورة هود من الإبعاد (أَلاَ بُعْدًا
لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ )، (أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ)، (أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ
كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ). وفي سورة الواقعة: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ
خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ). أي خافضة قوماً كانوا مرفوعين في الدنيا أو رافعة قوماً
كانوا مخفوضين في الدنيا. وفي سورة التكوير أهوال يوم القيامة وانكشاف الخاتمة،
وفي عمَّ يتساءلون كذلك. وروي أن أشد آية تصف عذاب المجرمين هي تلك التي يقول فيها
لهم الله عز وجل في سورة النبأ: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدكُمْ إِلَّا عَذَابًا).
فنحن جئنا إلى هذه الدنيا
وحُمِّلنا مهمة سوف نسأل عنها فماذا أعددنا لذلك المقام ولتلك الأسئلة قال تعالى:
(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)، (مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ
الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ). والحياة تمر بسرعة والموت مقبل والندم لا شك فيه، فلماذا نهلك أنفسنا
بأيدينا والله عز وجل سيسألنا أول ما يسألنا عن عمرنا كما روي الحديث الصحيح عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تزولا قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه)
فالعمر رأس مال ثمين علينا أن نستثمره لما فيه خيرنا في الآخرة.
وأذكر هنا قصة لبشر الحافي
نختم بها إن شاء الله موضوع الخوف، كان بشر الحافي أميراً للبصرة في الشطر الأول
من حياته وكان له قصر يضرب به المثل في البصرة و كان دائماً غريق لهوه و مجونه،
ذات ليلة طرق بابه طارق، فذهبت إحدى جواريه ففتحت الباب فوجدت إنسان رث الهيئة
تبعث صورته على التقزز... فقير... فقال لها: صاحب هذا الدار حرٌ أم عبدٌ؟ فاستضحكت
الجارية وقالت: تسأل عن صاحب الدار حرٌ أم عبدٌ، ولم تسمع بأمير البصرة وصفقت
الباب بوجهه وهي تضحك، فسألها بشر من؟ قالت: مجنون طرق الباب و لما فتحت له قال من
صاحب الدار حرٌ أم عبدٌ؟ ..فكر هذا الرجل ... و هنا بين التيه و الهدى لفتة واحدة
بين الرشد والضلال التفاته لحظة وإذا تجرد الإنسان لعقلانيته في لحظة من اللحظات
فسيعلم الحق ... فهذا الكلام نبه الأمير إلى شيء وكأنه كان مطوحاً بشراب مسكر
وزايله فخرج مسرعاً إلى الباب وحافياً وقال لها: من أي طريقٍ مضى؟ ثم أخذ يتلفت
يميناً وشمالاً ويذهب إلى هذا الجانب ثم إلى الجانب الآخر حتى عثر على الشخص الذي
وصفته الجارية ، فأمسك به وقال: أأنت الذي طرقت الباب؟ قال نعم قال: ماذا قلت؟
قال: لا شيء سمعت صفقاً ولهواً فعجبت وقلت للجارية: صاحب هذه الدار حرٌ أم عبدٌ
فضحكت و قالت: ألم تسمع بأمير البصرة. قلت: أكيد لأن هذا ليس عمل عبيد، قال: يا هذا
أشهدك أني عبدٌ لله عز و جل وسأعيش منذ اليوم حياة العبيد، وسأتجه إلى الله عز وجل
بعد طول شرود ومنذ تلك اللحظة ولد بشر الحافي هذا العالم الزاهد الذي كان أمير البصرة بعد أن انتبه إلى رأس مال خطير يبدده وهو عمره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق