الجمعة، 28 يونيو 2013

خطبة الإيمان والاستقامة



بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ () نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ () نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ () وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
توجه صحابي جليل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله أوصني وصية لا أسأل عنها أحداً غيرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم.
كلمة جامعة لكل نواحي الخير. الإيمان أن تعلم أن كل شيء إنما يجري في هذا الكون بأمر الله، هو أن تعلم في قرارة نفسك وتستيقن بأن الله تعالى هو خالق الكون كله وهو مدبر الأمر كله ولا راد لقضاءه أو معقب لحكمه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره.
الإيمان يطمئن القلوب والنفوس ويجعل الإنسان دائماً مطمئناً بالله عز وجل مسلماً لأمره. شعلة في قلب المؤمن تدفع عنه كل أذى أو شر، وتدفع عنه وساوس الشيطان. فلا يسأل المؤمن لماذا أصابني هذا أو حل بي هذا لأنه يعلم أن كل شيء بأمر الله عز وجل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الإيمان بالتمني لكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العقل. فالإيمان بدون عمل هو إيمان ناقص والعمل هو دليل الإيمان.
والمؤمن يسلم جميع أمره لله عز وجل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقول أحدكم لو فعلت كذا لكان كذا ولكن ليقل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان).
والاستقامة هي تقوى الله عز وجل، هي العمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل كما قال الإمام علي رضي الله عنه.
جاء صحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له أوصني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابكي على خطيئتك).
والاستقامة هي الائتمار بالأوامر والانتهاء من النواهي والابتعاد عن الشبهات، وهي تتلخص في المقولة المشهورة دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
والإيمان على مراتب، وهو يزداد في القلب، وفي حياة صاحبه يزيد ويزيد حتى يملأ القلب والوجود ويكون لصاحبه نوراً يضيء حياته، فيتمثل الإيمان في كل أعماله فيصبح كلامه إيمان ونظره إيمان وسمعه إيمان وفكره إيمان وكله إيمان. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ). وقال الإمام الشافعي رحمه الله :الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
لذلك فقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أولاً على الإيمان والعقيدة حتى ترسخت جذورها في أنفسهم وثبتت أصولها وأشرقت بنور ربها. ثم بعد ذلك نزلت بقية الشريعة والتكاليف. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :أوتينا الإيمان قبل القرآن. أي تربينا على العقيدة الإسلام والإيمان بالله تعالى قلب أن نتعلم كتاب الله فالتربية يجب أن تسبق العلم.
وقد أوضح الله سبحانه وتعالى الفرق بين الإيمان والكفر وبين المؤمن والكافر حيث ضرب لذلك مثلان مؤثران ومعبران، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)).
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل حارثة رضي الله عنه فقال له: (كيف أصبحت يا حارثة؟) قال حارثة: أصبحت مؤمناً حقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟) فقال حارثة: عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتنعمون، وكأني أنظر إلى أهل النار في النار يتعذبون، وكأني أرى عرش ربي بارزاً من أجل ذلك أسهرت ليلي وأظمأت نهاري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرفت فالزم). ثم قال: (عبدٌ نور الله قلبه بالإيمان). فقال حارثة يا رسول الله ادع الله أن يرزقني الشهادة في سبيله، فدعا له فكان من شهداء بدر رضي الله عنه وأرضاه. وجاءت أمه فقالت يا رسول الله أنت تعرف مكانة حارثة في قلبي فإن كان في الجنة فرحت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه بالبكاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أم حارثة إنها ليست جنة واحدة إنها جنات ولقد دخل حارثة الفردوس الأعلى). فذهبت أم حارثة وهي تضحك وتقول: بخٍ بخٍ يا حارثة هنيئاً لك الجنة.
في هذا الموقف عبر وعظات كثيرة وكبيرة فإيمان حارثة لم يكن إيمان باللسان بدون عمل بل كان كما قال: أسهرتَ ليلي وأظمأت ناري، فاستوى عندي الذهب والتراب. عاش وكأنه في الجنة ينظر إلى أهل الجنة وينظر إلى أهل النار ويرى قضاء الله تعالى. فرأى النتيجة والثمرة رأى العقاب والثواب فقام الليل وصام النهار تقرباً لله تعالى وطاعة له.

الخميس، 20 يونيو 2013

خطبة الخوف



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم وافتح عليما بمعرفة العلم وسهل أخلاقنا بالحلم واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أما بعد فكلامنا اليوم إن شاء الله عن الخوف، هو صفة من صفات المؤمن الصالح الخوف من الله تعالى هو خوف من صفاته من عظمته وجلاله وهيبة تقع في القلب من هول الموقف بين يديه وتحقيق لسر قوله عز وجل " وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ " ... ويكون هذا الخوف لما عند العبد من معرفة الله وصفاته وجلاله واستغنائه فمن عرف الله تعالى عرف أنه يفعل ما يشاء ولا يبالي ويحكم ما يريد وأنه لو أهلك العالمين لم يبال ولم يمنعه مانع وأنه لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون. فأخوف الناس لربه أعرفهم بالله وبصفاته وأعرفهم بحال نفسه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أخوفكم لله سبحانه وتعالى). وكذلك قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). أما الخوف من عذاب الله فهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية، ويكون ضعفه بسبب الغفلة وضعف الإيمان وتكون تقويته بتذكر قدرة الله وضعف الإنسان وتذكر أحوال الخائفين و قصصهم.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجلٌ يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحداً أشد عذاباً منه ، وإنه لأهونهم عذاباً) متفق عليه. فهل يدع هذا الحديث في كيان أحدنا أمناً وطمأنينة من عذاب الله وسخطه. مهما كان أحدنا هل يضمن أن لا يكون هو هذا الإنسان ... وربنا عز وجل يقول: (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) ليس لله مكر ولكن من قبيل المشاكلة أي العقاب الذي ادخره الله لمن ظن أن الله لن يعاقبه.
مهما صلى الإنسان مهما صام مهما ذكر الله يظل مقصراً وهو مركب من أخطاء ومن تقصير. والمعاملة مع خالق الكون مع رب العباد مع خالق القوى والقدر. ما أدراه أن الله سيغفر له هل لأخذ براءة من الله من ناره.. أبداً ولنقرأ قول الله عز وجل: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ). فكيف للإنسان أن يأمن مكر الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين ، إذا أمِنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمَّنته يوم القيامة).
وقيل للحسن: يا أبا سعيد كيف نصنع؟  نجالس أقواماً يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير، فقال: والله، إنك أن تخالط قوما يخوفونك حتى يدركك الأمن، خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك الخوف.
وقالت عائشة رضي الله عنها: قلت يا رسول الله: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) هو الرجل يسرق ويزني؟ قال (لا بل الرجل يصوم ويصلي وبتصدق ويخاف أن لا يقبل منه).
فيقول أحدنا أمرني الله ففعلت نهاني فانتهيت وأتيت كل ما علي! إذاً أنا من أهل الجنة ومن مستحقي رحمة الله عز وجل فتأتيه أمور لم يحسب لها حسباناً ويصدق عليه قول الله (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ). فغبيٌ جداً ومخدوعٌ جداً من ركن إلى القليل من طاعته أو الكثير وظن نفسه أنه مغفور له. قال تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ).
وعندما ننظر إلى صحابيٍ مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأين نحن من عمر؟ وما أدراكَ من عمر؟ وهو أمير المؤمنين ننظر إليه وهو يبكي في جوف الليل ويقول: (ليت أم عمر لم تلد عمر)، وتمنى لو كان شاة في بادية ما، ويقول (والله لو أن إحدى قدمي دخلت الجنة والأخرى لا تزال لا آمن مكر الله عز وجل).
وروي في الصحيح أن رجلاً كان مسرفاً على نفسه فلما دنا أجله جمع أولاده وقال: إذا مت والله لإن قدر الله علي فلسوف يعذبني عذاباً لم يعذبه أحداً مثلي فإذا مت فأحرقوني ثم اجمعوا رمادي فاذروا رمادي في يوم ذي ريح شديد، فو الله لان قدر الله علي ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحداً من قبل. ففعلوا به ذلك ونفذوا وصيته كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقول الله عز وجل: (ما الذي حملك على هذا؟ يقول خوفي من عذابك! إني أعلم أني رحلت إليك وليس في جعبتي شيء من الطاعات فلم أجد سبيلاً إلا أن أحيل ذاتي إلى رماد تذره الرياح. فيقول الله: ( لقد غفرت لك).
فالسر هنا هو حقيقة العبودية فبمقدار ما يتقرب العبد من الله بذله وبخضوعه بمقدار ما يبتعد عنه بعجبه وريائه.
وما ورد في فضل الخوف خارج عن الحصر فقد قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)، وقال: (هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) كذلك قال: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)، وقال عز وجل: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
والله سبحانه وتعالى لم يذكِّر عباده بصفات رحمته إلا وذكَّرهم قبل ذلك أو بعده مباشرة بصفات عقوبته وانتقامه وعظيم سطوته. ولا نجد آية من آيات الرحمة إلا وهي مقترنة بآية من آيات الشدة قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ  وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ).
(نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ  وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ).
فآية الرخاء إلى جانب آية الشدة حتى يتجاذب الإنسان شعوران اثنان أملٌ برحمة الله وخوفٌ من عذابه وإذا امتزج هذان الشعوران نشئ الإنسان على تربية ربانية تامة فلا الخوف وحده يصبح حال العبد ولا الأمل  وحده وهكذا يربي الباري عز وجل عباده. قال تعالى: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) وقال عز وجل: (وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً).
وروي أن علياً كرم الله وجهه قال لبعض ولده: يا بني خَف الله خوفاً ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك، وارجُ الله رجاءً ترى لو أنك أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك.
أما عمر رضي الله عنه فيقول: (لو نودي ليدخل النار كل الناس إلا رجلاً واحداً لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل، ولو نودي ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل)، وفي ذلك غاية الخوف والرجاء واعتدالهما فلا يمكن أن يتعامل الإنسان معاملة العبد مع خالقه إلا إذا كان على صراطه القويم بدافعين دافعٌ من الأمل برحمته ودافعٌ من الخوف من عذابه.
وإذا وقفنا أمام الآيات التي يصف بها الله عذابه نسمع شيئاً تذوب منه القلوب بل تذوب منه الحجارة الصماء، قال تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)،
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )،
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ )،
(وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ  يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعيدٌ ).
كذلك قال تعالى: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ) وذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (شيبتني هود وأخواتها سورة الواقعة وإذا الشمس كورت وعمَّ يتساءلون). وقال العلماء لعل ذلك لما في سورة هود من الإبعاد (أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ )، (أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ)، (أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ). وفي سورة الواقعة: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ). أي خافضة قوماً كانوا مرفوعين في الدنيا أو رافعة قوماً كانوا مخفوضين في الدنيا. وفي سورة التكوير أهوال يوم القيامة وانكشاف الخاتمة، وفي عمَّ يتساءلون كذلك. وروي أن أشد آية تصف عذاب المجرمين هي تلك التي يقول فيها لهم الله عز وجل في سورة النبأ: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدكُمْ إِلَّا عَذَابًا).
فنحن جئنا إلى هذه الدنيا وحُمِّلنا مهمة سوف نسأل عنها فماذا أعددنا لذلك المقام ولتلك الأسئلة قال تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)، (مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ). والحياة تمر بسرعة والموت مقبل والندم لا شك فيه، فلماذا نهلك أنفسنا بأيدينا والله عز وجل سيسألنا أول ما يسألنا عن عمرنا كما روي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تزولا قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه) فالعمر رأس مال ثمين علينا أن نستثمره لما فيه خيرنا في الآخرة.
وأذكر هنا قصة لبشر الحافي نختم بها إن شاء الله موضوع الخوف، كان بشر الحافي أميراً للبصرة في الشطر الأول من حياته وكان له قصر يضرب به المثل في البصرة و كان دائماً غريق لهوه و مجونه، ذات ليلة طرق بابه طارق، فذهبت إحدى جواريه ففتحت الباب فوجدت إنسان رث الهيئة تبعث صورته على التقزز... فقير... فقال لها: صاحب هذا الدار حرٌ أم عبدٌ؟ فاستضحكت الجارية وقالت: تسأل عن صاحب الدار حرٌ أم عبدٌ، ولم تسمع بأمير البصرة وصفقت الباب بوجهه وهي تضحك، فسألها بشر من؟ قالت: مجنون طرق الباب و لما فتحت له قال من صاحب الدار حرٌ أم عبدٌ؟ ..فكر هذا الرجل ... و هنا بين التيه و الهدى لفتة واحدة بين الرشد والضلال التفاته لحظة وإذا تجرد الإنسان لعقلانيته في لحظة من اللحظات فسيعلم الحق ... فهذا الكلام نبه الأمير إلى شيء وكأنه كان مطوحاً بشراب مسكر وزايله فخرج مسرعاً إلى الباب وحافياً وقال لها: من أي طريقٍ مضى؟ ثم أخذ يتلفت يميناً وشمالاً ويذهب إلى هذا الجانب ثم إلى الجانب الآخر حتى عثر على الشخص الذي وصفته الجارية ، فأمسك به وقال: أأنت الذي طرقت الباب؟ قال نعم قال: ماذا قلت؟ قال: لا شيء سمعت صفقاً ولهواً فعجبت وقلت للجارية: صاحب هذه الدار حرٌ أم عبدٌ فضحكت و قالت: ألم تسمع بأمير البصرة. قلت: أكيد لأن هذا ليس عمل عبيد، قال: يا هذا أشهدك أني عبدٌ لله عز و جل وسأعيش منذ اليوم حياة العبيد، وسأتجه إلى الله عز وجل بعد طول شرود ومنذ تلك اللحظة ولد بشر الحافي هذا العالم الزاهد الذي كان أمير البصرة  بعد أن انتبه إلى رأس مال خطير يبدده وهو عمره.

الأحد، 16 يونيو 2013

خطبة الحلال والحرام



بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ).
وقال عز وجل: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ).
وفي آية أخرى: (  فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّه حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ  ) والآيات الواردة في الحلال والحرام لا تحصى ولا تعد حتى إحدى الآيات تأمر بأكل الحلال قبل العمل قال تعالى: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالِحًا ).
فالمراد هنا أن يحل الإنسان مطعمه قبل أن يعمل الصالحات ويؤدي العبادات فذلك أهم شيء حتى يقبل منه  ما يعمله. وفيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( رب أشعث أغبر مشرد في الأسفار مطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام يرفع يديه فيقول يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك ). وقال صلى الله عليه وسلم: ( كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به ).
وطلب الحلال فريضة على كل مسلم ومعرفة الحلال من الحرام هي من العلم المفروض على كل مسلم أن يتعلمه وأن يعود إليه في كل حين وكلما اشتبه عليه أمر من الأمور. وتفصيل الحلال والحرام موجود في كتاب الفقه وعلى المسلمين أن يعودوا إليها ولا يفتي أحدهم بما لا يعلم ويقول هذا حلال وهذا حرام، قال تعالى: ( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِف أَلْسِنَتكُمْ الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حَرَام لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّه الْكَذِب إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب لَا يُفْلِحُون ).
وعلى المسلم أن يعلم أن الأصل في الأشياء الحل أي الحلال إلا ما حرمه الله عز وجل في كتابه أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو ما أجمع عليه علماء المسلمين. لأن التحريم بالهوى إنما هو شرك والعياذ بالله. الذي يحرم ويحلل ليرضي أهواءه أو أهواء الناس فهو مشرك مثل بني إسرائيل الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله يحرمون لهم ويحللون.
والحرام على أصناف منها ما هو حرام لذاته ومنها ما هو حرام لخلل في جهة اكتسابه. فأما الحرام لذاته فهو كالسموم والخمر والخنزير وغير ذلك من المأكولات المحرمة فالمأكولات على وجه الأرض ثلاثة أقسام: معادن ونباتات وحيوانات، فلمعادن كالأملاح مثلا وجميع ما يخرج من الأرض فلا يحرم أكلها إلا إذا كانت تضر بالآكل فكل ما هو ضار فهو حرام  ولو كان الخبز مضراً لكان أكله محرماً.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ).
وأما النباتات فلا يحرم منها إلا ما يزيل العقل كالخمر والمسكرات والمخدرات. وما يزيل الحياة كالأعشاب السامة والفطور السامة وكل أنواع السموم. وما يزيل الصحة كالأدوية في غير وقتها والدخان الذي يسمونه أيضاً الكيف فهو حرام لأنه ضار وكل ضار حرام فهو انتحار بطيء يقتل الإنسان نفسه بنفسه ببطء وفيه تبذير للمال في أمر غير مفيد بل في أمر ضار وليس فيه أي فائدة إلا للشركات اليهودية التي تعمل على تصنيعه وفيه ضرر لمن حوله من الناس. و إذا دخل المسجد أضر من حوله من المصلين برائحة فمه ونفرهم منه كآكل البصل أو الثوم بل هو أبشع.
وأما الحيوانات فمنها ما يحل أكله ومنها ما يحرم أكله كالخنزير مثلا وما يحل أكله فإنما يحل إذا ذبح ذبحاً شرعياً إسلامياً وأما ما لم يذبح فهو حرام وهو ميتة وكل ميتة حرام إلا ميتتان السمك والجراد.
قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ).  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال ).
والنوع الثاني من الحرام هو الحرام لجهة اكتسابه والحصول عليه فالخبز إذا كان مسروقا فهو حرام ومال الربا حرام والمال المأخوذ ظلماً وعدواناً وأموال اليتامى. قال تعالى: ( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِل ). وقال ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ).
أما الربا فهو من أكبر المحرمات ولذلك توعد الله عز وجل آكل الربا بالحرب ولم يتوعد أحداً بالحرب إلا آكل الربا قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ). ثم قال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) ثم قال: (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ ) ثم قال: (وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ). فجعل آكل الربا في أول الأمر مؤذناً بمحاربة الله ورسوله وفي آخر الأمر متعرضاً لنار جهنم وخالداً فيها.
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه شرب لبناً أتى به عبده ثم سأله عنه فقال تكهنت لقوم فأعطوني (يعني كذب عليهم كما يفعل المنجمون اليوم ) فأدخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه أصابعه في فمه وجعل يقيء حتى أخرج اللبن ثم قال اللهم أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء.
فعلى الإنسان أن ينتبه إلى ما يأكله وأن يسأل عنه وأن يتجنب مواضع الريبة ويجتنب الشبهات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرئ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ). لأنه كما الحلال كله طيب ولكن بعضه أطيب من بعض فكذلك الحرام كله خبيث ولكن بعضه أخبث من بعض. لذلك لا بد من الامتناع عن أكل ما هو حرام وعن كل ما يؤدي إلى حرام أو فيه احتمال تحريم أو شك أو شبهة.
وعلى الإنسان المسلم أن يرد كل ما يعرض له من أمور إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الفقهاء في كتب الفقه المعروفة. وعليه أن يتعلم أن كل ما هو نافع ومفيد فالأصل فيه أنه حلال وكل ما هو ضار مؤذي وكل ما هو خبيث ومستقبح فالأصل فيه التحريم. وان كل ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام وأن التحايل على الحرام حرام. وما هو حرام فعله بالمسلم كالسرقة مثلاً فهو حرام فعله بالناس جميعاً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من غش فليس منا ) أي من غش أياً من الناس سواء كان مسلماً أو كافراً فهو ليس من المسلمين.
وكل ما هو حرام ففيه مضرة عاجلة أو آجلة حتى ولو لم يعلمها الإنسان مباشرة. ودائماً نجد في الحلال ما يغني عن الحرام فبالزواج غنى عن الزنا وبالكسب المشروع والعمل الحلال غنى عن السرقة وهكذا هناك تقابل لكل أمر محرم شرع الله مقابله أمراً حلالاً يغني عنه فماذا علمنا من ذلك بقي أن نعلم أن هناك قاعدة شرعية تقول الضرورات تبيح المحظورات فهناك دائما استثناءات للمضطر. وكل ضرورة تقدر بقدرها ويجب فيها سلامة نية المضطر. قال تعالى: ( قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ). والضرورة هي الضرورة القصوى والملحة أي أن لا يجد الإنسان ما يأكله وإذا لم يأكل فسوف يموت من الجوع. لا أن يخلق لنفسه الأعذار بغير ضرورة ويقول أنا مضطر.
كان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أمثلة حية في الورع والابتعاد عن الحرام وعن الشبهات حتى أنهم كانوا يبالغون في ذلك روي أن عمر بن عبد العزيز كان يوزن بين يديه مسكً للمسلمين فسد أو أبعد أنفاسه حتى لا تصبه الرائحة ولما سئل عن ذلك قال وهل ينتفع من المسك إلا من ريحه.
وكان بشر الكافي رحمه الله من الورعين فقيل له من أين تأكل فقال من حيث تأكلون ولكن ليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك وقال يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة. وهكذا كانوا يحترزون من الشبهات.
وقال سهل التستري: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه أربع خصال: أداء الفرائض بالسنة – وأكل الحلال بالورع – واجتناب النهي ظاهراً وباطناً – والصبر على ذلك إلى الموت.
نذكر مرة أخرى بقواعد الحلال والحرام:
·        كل ما هو نافع ومفيد الأصل فيه التحليل وكل ما هو ضار ومؤذي فالأصل فيه التحريم.
·        كل ما هو حرام ففيه مضرة عاجلة أو آجلة.
·        كل ما يؤدي إلى حرام فهو حرام.
·        التحايل على الحرام حرام.
·        الضرورات تبيح المحظورات مع سلامة النية.
·        التحريم بالهوى قرين الشرك.
·        كل تحريم وتحليل هو من عند الله من القرآن الكريم والسنة الصحيحة.